
انتصار حسن
بدأت الرواية بمشهد للأطفال بملابسهم الزاهية وهم بصحبة آبائهم، وبينما ينتهون من صلاة عيد الفطر، تساق مجموعة من الشباب للحرب في صباح أول أيام العيد، من بينهم منصور بطل الرواية الذي يشارك في الحرب لأول مرة، فيشعر بغصة وهو يتذكر فرحة العيد وطقوسه.
يلتفت إليه رفيقه وهو يكوم جسده بجانب صناديق الذخيرة، ليقول له: "الحرب ليست نزهة، الحرب هي الموت والغياب والفقد والمقابر"، وكأنه بكلامه هذا يود أن يوقف أية محاولة للتفاؤل أو الأمل، بما أنه قد ذهب للحرب من قبل وأكثر من مرة.
تناولت الرواية موضوع الحرب وآثارها، ليس فقط آثارها على الأرض وعلى الأنظمة السياسية، ولكن على الأفراد والمجتمعات أيضًا، حيث يتحول الإنسان إلى ضحية بين رحى السياسة والعنف والصراعات الأيديولوجية.
كُتبت الرواية على أسس السرد التاريخي، فقد ضمت أوراقها تجربة إنسانية عميقة، تشابكت فيها الأبعاد السياسية والاجتماعية والنفسية، لتعكس لنا واقعا مضطربا مليئا بالصراعات. ولهذا تطلّب أن يركز النقد على العلاقة بين النص الأدبي والظروف التي أُنتج فيها، ولفهم النص بشكل أعمق وجب الاطلاع على سيرة حياة الكاتب، والمؤثرات السياسية والاجتماعية والفكرية لعصره.
وبالاطلاع على السيرة الذاتية للراوي ندرك أننا أمام شاهد حي على كل تلك الأحداث، فقد ذكر الكاتب أنه كان من المدافعين عن الثورة والجمهورية أثناء حصار السبعين وهو في الرابعة عشرة من عمره، وتعرض أكثر من مرة للاعتقال، وقضى أعوام عدة من عمره بين دياجير الزنازين.
الرواية، بناء على هذه الخلفية، واقعية توثيقية لفترة مهمة من تاريخ اليمن السياسي، تحكي عن الصراع الذي دار في اليمن في فترة الستينيات أثناء حصار صنعاء، وعن استماتة الجمهوريين لانتزاع البلد من براثن الملكية المقيتة ثم ما تلاها من أحداث.
جاء وصف حالة الجنود في نقيل يسلح: "الموقع الاستراتيجي الذي يفصل بين صنعاء وذمار"، وعبر مواقف وحوارات لشخصيات عسكرية وقبلية ظهرت تناقضات الحرب بين الطموحات السياسية والمآسي الإنسانية. اتضحت حالة الفساد داخل الجيش الجمهوري، فالبعض كان يستخدم الدهاء والفساد للوصول إلى مناصب قيادية داخل الجيش، والبعض من الرعاة والمزارعين أصبحوا من أصحاب المناصب بين ليلة وضحاها.
تحمل الرواية نقدًا حادًا للقادة غير الأكفاء وللحرب وعبثيتها، حيث تتداخل المصالح القبلية والشخصية مع الأهداف الوطنية، كما تُظهر كيف أن الجيش كان مليئًا بالفوضى، بعيدًا عن الانضباط العسكري المطلوب، وبهذا تنامت المؤامرات والخيانات التي كانت أكثر من المواجهات العسكرية لأجل الوطن، واغتيلت القيادات العسكرية غدرا واحدا تلو الآخر.
الوصف في الرواية:
أبدع الكاتب في التوصيف بداية حين سُرق حذاؤه وعانى من ألم الأشواك التي أدمت قدميه، وكذلك مشهد الرجل الهندي الذي كان ذاهبا للحج مع ابنته ثم عاد وحده بينما أخذ الملكيون ابنته سبية. وجاء ذكر حادثة قتل بشعة، إذ تم تقطيع الضحية بعد القتل، ثم وضعت أجزاء الجثة في عُلب ورميت بين أحراش العنب. ومن المشاهد الموجعة والتي أجاد الكاتب وصفها هو مشهد قطع أيادي السارقين:
"تم جرّه إلى الميدان كما تجر الخراف إلى المسلخ، أمسك به اثنان من العسكر وتلقفه الجزار، أمسك جزار آخر بكف يده، بينما أمسك الجزار بالجانب الآخر، ومرر حد الساطور في المفصل وسلخ الكتف، أصدر المجني عليه زعقة مدوية، وترتر الدم من العروق وفي الحال دس الجزار بقية الساعد الذي أصبح كالصميل في مادة القار لتوقيف الدم، بينما تم رمي الكف والأصابع إلى كيس من الشوال."
وختم وصفه بعبارة: "يقطعون يد من يسرق الرغيف ويتركون من يسرق الملايين".
وكانت خاتمة الرواية بهذا الحوار:
"إن الظروف مواتية.. الأزمات طاحنة جوع وفقر وقهر، ماذا تريدون أكثر من ذلك؟ الثورة لن تأتي إلى أحضانكم وطريقها ليس مفروشا بالورود"، ثم صمت الجميع ولم يلتفت أحد نحو الآخر بعد أن حانت الساعة السليمانية.. كإشارة إلى حال اليمنيين الذين يبنون قلاع أحلامهم في ساعة نشوتهم مع القات، ثم فجأة تهوي تلك القلاع ليتجسد أمامهم اليأس والضعف والخوف."
البناء الزمني:
تتبّع الرواية تسلسلًا زمنيًا غير معقد، حيث تبدأ من استعداد الجنود للحرب، ثم تصف تقدمهم في المعارك والفوضى التي تصيبهم، ثم تنتهي بالفشل المتكرر ومحاولات إعادة الترتيب. في النهاية يتفق الملكيون مع الجمهوريين ويتقاسمون السلطة بوساطة سعودية، ويسرح الجيش الذي قاتل في حصار السبعين، ويؤتى بجيش جديد يوجه مدافعه نحو الجنوب، وتتغير المناهج الدراسية، وتمحى من الخرائط جيزان ونجران وعسير.
الرمزية في الرواية:
تتجلى الرمزية في العنوان "طيور سوداء تشبه الغربان"، وفي خضم تلك الأوضاع نستذكر حال صنعاء حينها، وهي تذوق الخيبات والنكسات، وكأن تلك الطيور التي ظهرت كانت إشارة للشؤم والفشل والموت والإحباط والهزائم المتكررة التي لاحقت الجنود الجمهوريين، لم تنعق.. لكن نعيقها سمع صداه في أرجاء صنعاء لسنين طويلة.
"هدوء مريب خيم على المدن اليمنية وخاصة صنعاء، ظهرت في الأجواء طيور سوداء تشبه الغربان، ولكنها لا تنعق.. قيل إنها تظهر لأول مرة في تاريخ المدينة."
"السماء أمسكت أمطارها وبدأ القحط الذي أخذ البلد نحو المجاعات."
إلمامة للأحداث:
من خلال شخصيات الرواية، نرى كيف تؤثر القرارات السياسية على حياة الأفراد، وكيف يتحول الجنود والمقاتلون إلى أدوات لتنفيذ أجندات لا تمت بصلة لحياتهم وأحلامهم الشخصية، فيتحول المواطن العادي إلى وقود لحروب لا يد له فيها.
يمكن القول إن "طيور سوداء تشبه الغربان" هي شهادة حية على بشاعة الحرب، حيث لا يوجد منتصر حقيقي، بل الجميع مهزوم بشكل أو بآخر.
الرواية تضع القارئ أمام معضلة تاريخية متكررة، حيث تُستخدم السلطة كأداة للقمع والتسلط، وتُحرك الحروب من أجل مصالح طبقات سياسية واقتصادية معينة، بينما يدفع البسطاء الثمن.
كما تسلط الرواية الضوء على دور القادة السياسيين والعسكريين، الذين يديرون المعارك من مكاتبهم بينما يموت الجنود في ساحات القتال، هذه المفارقة تكشف كيف يُسحق الإنسان البسيط بين مطرقة الولاء للسلطة وسندان الحفاظ على حياته، هنا يبدو المشهد كأنه إعادة إنتاج لتاريخ طويل من الحروب العبثية التي لا تنتهي.
الكاتب نجح في تصوير هذا الواقع بعمق وواقعية، دون السقوط في فخ الدعاية السياسية أو التبسيط السطحي للأحداث، من خلال السرد الذي يتنقل بين مشاهد الحرب ومشاعر البشر، وبهذا كانت الرواية عملاً أدبيًا سياسيا يحتمل الكثير من الإسقاطات، وما أشبه الليلة بالبارحة!
اقتباسات من الرواية:
"الجمهورية تزوجت الملكية سفاحا وأنتجت مولودا مسخا سموه الجُملكية."
"اليمن مقبل على تغييرات صادمة، واستقلال البلاد وسيادتها في مهب الريح."
"قال المؤيدون للاتفاق: إن السلام سيعم اليمن، وستدخل الأموال كل جيب، وسيعم الخير اليمن طولا وعرضا. لكن لم يدخل اليمن إلا الجراد الذي أكل الأخضر واليابس، وفي الأخير أكل اليمنيون الجراد بسبب الجوع."
"الجوع كافر، وثورة الجياع قادمة."
"المجاعة تفتك بالناس والعاطلون يملؤون الشوارع والمتسولون أمام كل محل، انتشرت عصابات السرق والجريمة والتقطع بينما عمارات شاهقة ترتفع في المدينة وسيارات حديثة تمرق في الشوارع..."
"هذا ذهب الملكيين وبجانبهم تجار الحروب والفاسدون والعملاء، أما الفقراء فلم يجدوا حتى قبورا ليواروا أجساد موتاهم.."
"هناك أناس اغتنوا بسرعة، ولم يكن لآبائهم ممتلكات! وهناك شعب زاد فقرا".
"الوضع مأساوي في البلاد، فقر مدقع وغناء فاحش."